“هل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها؟” وأدارت أسماء وجهها حتى لا ترى الخوف باديا في عيني عبد الله بن الزبير فيرق قلبها.
لم يكن ولدها يخشى الموت أو يتشبث بالحياة، فلطالما حدق الموت في عينيه، لكنه كان يخشى أن يصلب فتأكل الطير من رأسه.
أمٌّ شاخت في الإسلام، لكن الإسلام لم يشخ فيها، وكانت تقف هي وولدها لا يفصلهما عن الموت سوى رمية منجنيق، لكنها كانت تفضل ضربة سيف في عزة على ضربة سوط في مذلة .. وكان الحضن الأخير.
وعند جذع نخلة صُلِب فوقها عبد الله، وقفت أسماء دون أن تذرف دمعة لتصرخ في الحجاج قائلة: “أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟”
الموت ليس نهاية الحياة، بل بداية لها، وبرزخ بين زيف وحقيقة وبين نوم ويقظة، فالحياة الآخرة هي الحيوان لو كان المشفقون من الموت يعلمون، لكن جسد الميت جدير بالتكريم ولو كان بقايا عدو، ولهذا نزل الغراب ذات جريمة ليعلم المجرم الأول كيف يواري سوأة أخيه.
يمكنك أن تحتمل فقد عزيز، وأن تلملم أشلاءه أو ما تبقى منها بيديك، لكنك لن تحتمل أبدا أن ينهش سبعٌ عظامه أمام ناظريك وفي وضح الفظاعة.
وهو بالضبط ما حدث لمحمد شريف حين خرج ابنه محمد ريس خان للعمل في صيدلية بسلطان بور وهو يتوقد شبابا وحماسة، ليعود مجرد بقايا نتنة في كيس من خيش.
ظل محمد شريف يبكي ولده حتى ابيضت عيناه من الحزن.
لكن الرجل الذي لم يبق الألم من روحه ذرة ملتحمة بذرة قرر أن ينتصر على وجعه بطريقة مدهشة.
لم يكن ما أمضَّه موت ولده، فالموت حق وإن تباينت أسبابه، لكن أن تبقى بقايا ولده مكدسة في الخيش تتناهشها سباع المنطقة وكلابها، فهذا ما لم يحتمله قلبه الرقيق.
وعلى إثر الفاجعة، قرر الثمانيني أن يكرس جهده ووقته وماله لإيقاف هذه البشاعة مهما كلف الأمر.
كان محمد يجوس المنطقة كل يوم وليلة ينبش المزابل والمدافن ويتردد على أقسام الشرطة بحثا عن أي جسد لم ينل حقه من التكريم، فيَلُم ما تفرق منه بيديه، ويصلي عليه أو يدعو له قبل أن يهيل فوق عظامه التراب.
مهمة شاقة كلفت صاحب محل إصلاح الدراجات الفقير آلاف الروبيات، لكنها كانت في رأيه تستحق، وقد تمكن الرجل من جمع رفات ثلاثة آلاف هندوسي وألفين وخمسمائة مسلم على مدار سبعة وعشرين عاما، ليتم تكريمه بال “بادما شري” وهو أرفع رابع وسام يمكن أن يناله مواطن هندي.
لم يذهب عمر محمد شريف هباء إذن، فقد قضى الرجل ثمرة عمره في ترميم ما أفسده السياسيون، وفي تكريم بقايا الوحوش وتجار الموت بدفن ما تبقى منها حتى حين، ليحظى بتكريم سلطات بلاده مؤخرا.
هناك من يجيدون القتل وسفك الدماء على مر التاريخ، وهناك أيضا من يكرسون حياتهم للملمة بقايا الفرسان من فوق جذوع النخيل ومن تحت عجلات القطار رغم ذلك.
لم يرزق الله آدم قابيل فقط ليفسد فيها ويسفك الدماء ويهلك الحرث والنسل، فالله لا يحب الفساد،
ولكنه رزقه أيضا بهابيل، الذي استحق تكريما يليق بجسده الطاهر على يد محمد شريف الذي فهم لغة الغراب، فشمر عن ساعديه المعروقين ليواري سوأة أولاده ضحايا العنف والحرب والقسوة.
يمكننا أن نبرر القسوة، وأن ننتحل لأنفسنا وللآخرين أعذارا للقتل، وربما لنسخر من جهد رجل قرر أن ينتصر على منظمات الدفاع عن حقوق البشاعة والعرق والدين والأسلاك الشائكة.
لكن الذين ذاقوا وبال القهر والظلم والاضطهاد والبشاعة حتما سيقدرون مواقف أسماء بنت أبي بكر ومحمد شريف وغيرهما من الذين لم يكتفوا بالوقوف فوق خرائب المدن يلوحون بالصمت، بل ساهموا في تكريم من ضاقت بهم البسيطة أحياء وأمواتا.